الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***
{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآَيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)} تجيء هذه التوجيهات الربانية في نهاية السورة، من الله سبحانه إلى أوليائه.. رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والذين آمنوا معه.. وهم بعد في مكة؛ وفي مواجهة تلك الجاهلية من حولهم في الجزيرة العربية وفي الأرض كافة.. هذه التوجيهات الربانية في مواجهة تلك الجاهلية الفاحشة، وفي مواجهة هذه البشرية الضالة، تدعو صاحب الدعوة- صلى الله عليه وسلم- إلى السماحة واليسر، والأمر بالواضح من الخير الذي تعرفه فطرة البشر في بساطتها، بغير تعقيد ولا تشديد. والإعراض عن الجاهلية فلا يؤاخذهم، ولا يجادلهم، ولا يحفلهم.. فإذا تجاوزوا الحد وأثاروا غضبه بالعناد والصد، ونفخ الشيطان في هذا الغضب، فليستعذ بالله ليهدأ ويطمئن ويصبر: {خذ العفو، وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين، وإما ينزغنك من الشيطان فاستعذ بالله إنه سميع عليم. إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون}.. ثم يعرفه بطبيعة أولئك الجاهلين؛ والوسوسة التي وراءهم والتي تمدهم في الغي والضلال. ويذكر طرفاً من سلوكهم مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وطلبهم الخوارق؛ ليوجهه إلى ما يقول لهم، ليعرفهم بطبيعة الرسالة وحقيقة الرسول، وليصحح لهم تصوراتهم عنها وعنه وعن علاقته بربه الكريم: {وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون. وإذا لم تأتهم بآية قالوا: لولا اجتبيتها! قل: إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي. هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون}.. وبمناسبة هذه الإشارة إلى ما أوحاه إليه ربه من القرآن، يجيء توجيه المؤمنين إلى أدب الاستماع لهذا القرآن؛ وأدب ذكر الله؛ مع التنبيه إلى مداومة هذا الذكر، وعدم الغفلة عنه. فإن الملائكة الذين لا يخطئون يذكرون ويسبحون ويسجدون، فما أولى البشر الخطائين أن لا يغفلوا عن الذكر والتسبيح والسجود: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون. واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين. إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون}.. {خذ العفو، وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين، وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله، إنه سميع عليم. إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون}.. خذ العفو الميسر الممكن من أخلاق الناس في المعاشرة والصحبة، ولا تطلب إليهم الكمال، ولا تكلفهم الشاق من الأخلاق. واعف عن أخطائهم وضعفهم ونقصهم.. كل أولئك في المعاملات الشخصية لا في العقيدة الدينية ولا في الواجبات الشرعية. فليس في عقيدة الإسلام ولا شريعة الله يكون التغاضي والتسامح. ولكن في الأخذ والعطاء والصحبة والجوار. وبذلك تمضي الحياة سهلة لينة. فالإغضاء عن الضعف البشري، والعطف عليه، والسماحة معه، واجب الكبار الأقوياء تجاه الصغار الضعفاء. ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- راع وهاد ومعلم ومرب. فهو أولى الناس بالسماحة واليسر والإغضاء.. وكذلك كان صلى الله عليه وسلم.. لم يغضب لنفسه قط. فإذا كان في دين الله لم يقم لغضبه شيء!.. وكل أصحاب الدعوة مأمورون بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالتعامل مع النفوس البشرية لهدايتها يقتضي سعة صدر، وسماحة طبع، ويسراً وتيسيراً في غير تهاون ولا تفريط في دين الله.. {وأمر بالعرف}.. وهو الخير المعروف الواضح الذي لا يحتاج إلى مناقشة وجدال؛ والذي تلتقي عليه الفطر السليمة والنفوس المستقيمة.. والنفس حين تعتاد هذا المعروف يسلس قيادها بعد ذلك، وتتطوع لألوان من الخير دون تكليف وما يصد النفس عن الخير شيء مثلما يصدها التعقيد والمشقة والشد في أول معرفتها بالتكاليف! ورياضة النفوس تقتضي أخذها في أول الطريق بالميسور المعروف من هذه التكاليف حتى يسلس قيادتها وتعتاد هي بذاتها النهوض بما فوق ذلك في يسر وطواعية ولين.. {وأعرض عن الجاهلين}.. من الجهالة ضد الرشد، والجهالة ضد العلم.. وهما قريب من قريب.. والإعراض يكون بالترك والإهمال؛ والتهوين من شأن ما يجهلون به من التصرفات والأقوال؛ والمرور بها مر الكرام؛ وعدم الدخول معهم في جدال لا ينتهي إلى شيء إلا الشد والجذب، وإضاعة الوقت والجهد.. وقد ينتهي السكوت عنهم، والإعراض عن جهالتهم إلى تذليل نفوسهم وترويضها، بدلاً من الفحش في الرد واللجاج في العناد. فإن لم يؤد إلى هذه النتيجة فيهم، فإنه يعزلهم عن الآخرين الذين في قلوبهم خير. إذ يرون صاحب الدعوة محتملاً معرضاً عن اللغو، ويرون هؤلاء الجاهلين يحمقون ويجهلون فيسقطون من عيونهم ويُعزلون! وما أجدر صاحب الدعوة أن يتبع هذا التوجيه الرباني العليم بدخائل النفوس! ولكن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بشر. وقد يثور غضبه على جهالة الجهال وسفاهة السفهاء وحمق الحمقى.. وإذا قدر عليها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقد يعجز عنها من وراءه من أصحاب الدعوة.. وعند الغضب ينزغ الشيطان في النفس، وهي ثائرة هائجة مفقودة الزمام!.. لذا يأمره ربه أن يستعيذ بالله؛ لينفثئ غضبه، ويأخذ على الشيطان طريقه: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم}.. وهذا التعقيب: {إنه سميع عليم}.. يقرر أن الله سبحانه سميع لجهل الجاهلين وسفاهتهم؛ عليم بما تحمله نفسك من أذاهم.. وفي هذا ترضية وتسرية للنفس.. فحسبها أن الجليل العظيم يسمع ويعلم! وماذا تبتغي نفس بعدما يسمع الله ويعلم ما تلقى من السفاهة والجهل وهي تدعو إليه الجاهلين؟! ثم يتخذ السياق القرآني طريقاً آخر للإيحاء إلى نفس صاحب الدعوة بالرضى والقبول، وذكر الله عند الغضب لأخذ الطريق على الشيطان ونزغه اللئيم: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون}. وتكشف هذه الآية القصيرة عن إيحاءات عجيبة، وحقائق عميقة، يتضمنها التعبير القرآني المعجز الجميل.. إن اختتام الآية بقوله: {فإذا هم مبصرون} ليضيف معاني كثيرة إلى صدر الآية. ليس لها ألفاظ تقابلها هناك.. إنه يفيد أن مس الشيطان يعمي ويطمس ويغلق البصيرة. ولكن تقوى الله ومراقبته وخشية غضبه وعقابه.. تلك الوشيجة التي تصل القلوب بالله وتوقظها من الغفلة عن هداه.. تذكر المتقين. فإذا تذكروا تفتحت بصائرهم؛ وتكشفت الغشاوة عن عيونهم: {فإذا هم مبصرون}.. إن مس الشيطان عمى، وإن تذكر الله إبصار.. إن مس الشيطان ظلمة، وإن الاتجاه إلى الله نور.. إن مس الشيطان تجلوه التقوى، فما للشيطان على المتقين من سلطان.. ذلك شأن المتقين: {إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون}.. جاء بيان هذا الشأن معترضاً بين أمر الله سبحانه بالإعراض عن الجاهلين؛ وبيان ماذا ومن ذا وراء هؤلاء الجاهلين، يدفعهم إلى الجهل والحمق والسفه الذي يزاولون.. فلما انتهى التعقيب عاد السياق يحدث عن الجاهلين: {وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون. وإذا لم تأتهم بآية قالوا: لولا اجتبيتها. قل: إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي، هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون}.. وإخوانهم الذين يمدونهم في الغي هم شياطين الجن.. وقد يكونون هم شياطين الإنس أيضاً.. إنهم يزيدون لهم في الضلال، لا يكلون ولا يسأمون ولا يسكتون! وهم من ثم يحمقون ويجهلون! ويظلون فيما هم فيه سادرين. ولقد كان المشركون لا يكفون عن طلب الخوارق من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والسياق هنا يحكي بعض أقوالهم الدالة على جهلهم بحقيقة الرسالة وطبيعة الرسول: {وإذا لم تأتهم بآية قالوا: لولا اجتبيتها!}.. أي.. لولا ألححت على ربك حتى ينزلها!.. أو هلا فعلتها أنت من نفسك؟ ألست نبياً؟! إنهم لم يكونوا يدركون طبيعة الرسول ووظيفته؛ كذلك لم يكونوا يعرفون أدبه مع ربه؛ وأنه يتلقى منه ما يعطيه؛ ولا يقدم بين يدي ربه ولا يقترح عليه؛ ولا يأتي كذلك الشيء من عند نفسه.. والله يأمره أن يبين لهم: {قل: إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي}.. فلا أقترح، ولا أبتدع، ولا أملك إلا ما يوحيه إلي ربي. ولا آتي إلا ما يأمرني به.. لقد كانت الصورة الزائفة للمتنبئين في الجاهليات تتراءى لهم، ولم يكن لهم فقه ولا معرفة بحقيقة الرسالة وطبيعة الرسول: كذلك يؤمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يبين لهم ما في هذا القرآن الذي جاءهم به، وحقيقته التي يغفلون عنها، ويطلبون الخوارق المادية، وأمامهم هذا الهدى الذي يغفلون عنه: {هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون}. إنه هذا القرآن.. بصائر تهدي، ورحمة تفيض.. لمن يؤمن به، ويغتنم هذا الخير العميم. إنه هذا القرآن الذي كان الجاهلون من العرب- في جاهليتهم- يعرضون عنه، ويطلبون خارقة من الخوارق المادية مثل التي جرت على أيدي الرسل من قبل، في طفولة البشرية، وفي الرسالات المحلية غير العالمية، والتي لا تصلح إلا لزمانها ومكانها، ولا تواجه إلا الذين يشاهدونها، فكيف بمن بعدهم من الأجيال، وكيف بمن وراءهم من الأقوام الذين لم يروا هذه الخارقة! إنه هذا القرآن الذي لا تبلغ خارقة مادية من الإعجاز ما يبلغه.. من أي جانب من الجوانب شاء الناس المعجزة في أي زمان وفي أي مكان.. لا يستثنى من ذلك من كان من الناس ومن يكون إلى آخر الزمان! فهذا جانبه التعبيري.. ولعله كان بالقياس إلى العرب في جاهليتهم أظهر جوانبه- بالنسبة لما كانوا يحفلون به من الأداء البياني، ويتفاخرون به في أسواقهم!- ها هو ذا كان وما يزال إلى اليوم معجزاً لا يتطاول إليه أحد من البشر. تحداهم الله به وما يزال هذا التحدي قائماً. والذين يزاولون فن التعبير من البشر، ويدركون مدى الطاقة البشرية فيه، هم أعرف الناس بأن هذا الأداء القرآني معجز معجز.. سواء كانوا يؤمنون بهذا الدين عقيدة أو لا يؤمنون.. فالتحدي في هذا الجانب قائم على أسس موضوعية يستوي أمامها المؤمنون والجاحدون.. وكما كان كبراء قريش يجدون من هذا القرآن- في جاهليتهم- ما لا قبل لهم بدفعه عن أنفسهم- وهم جاحدون كارهون- كذلك يجد اليوم وغداً كل جاهلي جاحد كاره ما وجد الجاهليون الأولون! ويبقى وراء ذلك السر المعجز في هذا الكتاب الفريد.. يبقى ذلك السلطان الذي له على الفطرة- متى خلي بينها وبينه لحظة!- وحتى الذين رانت على قلوبهم الحجب، وثقل فوقها الركام، تنتفض قلوبهم أحياناً؛ وتتململ قلوبهم أحياناً تحت وطأة هذا السلطان؛ وهم يستمعون إلى هذا القرآن! إن الذين يقولون كثيرون.. وقد يقولون كلاماً يحتوي مبادئ ومذاهب وأفكاراً واتجاهات.. ولكن هذا القرآن يتفرد في إيقاعاته على فطرة البشر وقلوبهم فيما يقول! إنه قاهر غلاب بذلك السلطان الغلاب!.. ولقد كان كبراء قريش يقولون لأتباعهم الذين يستخفونهم- ويقولون لأنفسهم في الحقيقة-: {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون}.. لما كانوا يجدونه هم في نفوسهم من مس هذا القرآن وإيقاعه الذي لا يقاوم! وما يزال كبراء اليوم يحاولون أن يصرفوا القلوب عن هذا القرآن بما ينزلونه لهم من مكاتيب! غير أن هذا القرآن يظل- مع ذلك كله- غلاباً.. وما إن تعرض الآية منه أو الآيات في ثنايا قول البشر، حتى تتميز وتنفرد بإيقاعها، وتستولي على الحس الداخلي للسامعين، وتنحي ما عداها من قول البشر المحير الذي تعب فيه القائلون! ثم يبقى وراء ذلك مادة هذا القرآن وموضوعه. . وما تتسع صفحات عابرة- في ظلال القرآن- للحديث عن مادة هذا القرآن وموضوعه.. فالقول لا ينتهي والمجال لا يحد! وماذا الذي يمكن أن يقال في صفحات؟! منهج هذا القرآن العجيب، في مخاطبة الكينونة البشرية بحقائق الوجود.. وهو منهج يواجه هذه الكينونة بجملتها، لا يدع جانباً واحداً منها لا يخاطبه في السياق الواحد، ولا يدع نافذة واحدة من نوافذها لا يدخل منها إليها؛ ولا يدع خاطراً فيها لا يجاوبه، ولا يدع هاتفاً فيها لا يلبيه! منهج هذا القرآن العجيب، وهو يتناول قضايا هذا الوجود، فيكشف منها ما تتلقاه فطرة الإنسان وقلبه وعقله بالتسليم المطلق، والتجاوب الحي، والرؤية الواضحة. وما يطابق كذلك حاجات هذه الفطرة، ويوقظ فيها طاقاتها المكنونة، ويوجهها الوجهة الصحيحة. منهج هذا القرآن العجيب، وهو يأخذ بيد الفطرة الإنسانية خطوة خطوة، ومرحلة مرحلة؛ ويصعد بها- في هينة ورفق، وفي حيوية كذلك وحرارة، وفي وضوح وعلى بصيرة- درجات السلم في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة.. في المعرفة والرؤية، وفي الانفعال والاستجابة، وفي التكيف والاستقامة، وفي اليقين والثقة، وفي الراحة والطمأنينة.. إلى حقائق هذا الوجود الصغيرة والكبيرة.. منهج هذا القرآن العجيب، وهو يلمس الفطرة الإنسانية، من حيث لا يحتسب أحد من البشر أن يكون هذا موضع لمسة! أو أن يكون هذا وتر استجابة! فإذا الفطرة تنتفض وتصوت وتستجيب. ذلك أن منزل هذا القرآن هو خالق هذا الإنسان الذي يعلم من خلق، وهو أقرب إليه من حبل الوريد! ذلك المنهج؟.. أم المادة ذاتها التي يعرضها القرآن في هذا المنهج.. وهنا ذلك الانفساح الذي لا يبلغ منه القول شيئاً.. {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي، لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي، ولو جئنا بمثله مدداً} {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام، والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله} إن الذي يكتب هذه الكلمات، قضى- ولله الحمد والمنة- في الصحبة الواعية الدارسة لهذا الكتاب خمسة وعشرين عاماً. يجول في جنبات الحقائق الموضوعية لهذا الكتاب؛ في شتى حقول المعرفة الإنسانية- ما طرقته معارف البشر وما لم تطرقه- ويقرأ في الوقت ذاته ما يحاوله البشر من بعض هذه الجوانب.. ويرى.. يرى ذلك الفيض الغامر المنفسح الواسع في هذا القرآن؛ وإلى جانبه تلك البحيرات المنعزلة، وتلك النقر الصغيرة.. وتلك المستنقعات الآسنة أيضاً! في النظرة الكلية في هذا الوجود، وطبيعته، وحقيقته، وجوانبه، وأصله، ونشأته، وما وراءه من أسرار؛ وما في كيانه من خبايا ومكنونات وما يضمه من أحياء وأشياء.. الموضوعات التي تطرق جوانب منها «فلسفة» البشر!. في النظرة الكلية إلى «الإنسان» ونفسه، وأصله، ونشأته، ومكنونات طاقاته، ومجالات نشاطه؛ وطبيعة تركيبه وانفعالاته، واستجاباته، وأحواله وأسراره.. الموضوعات التي تطرق جوانب منها علوم الحياة والنفس والتربية والاجتماع! والعقائد والأديان.. في النظرة إلى نظام الحياة الإنسانية؛ وجوانب النشاط الواقعي فيها؛ ومجالات الارتباط والاحتكاك، والحاجات المتجددة وتنظيم هذه الحاجات.. الموضوعات التي تطرق جوانب منها النظريات والمذاهب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.. وفي كل حقل من هذه الحقول يجد الدارس الواعي لهذا القرآن وفرة من النصوص والتوجيهات يحار في كثرتها ووفرتها! فوق ما في هذه الوفرة من أصالة وصدق وعمق وإحاطة ونفاسة! إنني لم أجد نفسي مرة واحدة- في مواجهة هذه الموضوعات الأساسية- في حاجة إلى نص واحد من خارج هذا القرآن- فيما عدا قول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو من آثار هذا القرآن- بل إن أي قول آخر ليبدو هزيلاً- حتى لو كان صحيحاً- إلى جانب ما يجده الباحث في هذا الكتاب العجيب.. إنها الممارسة الفعلية التي تنطق بهذه التقريرات؛ والصحبة الطويلة في ظل حاجات الرؤية والبحث والنظر في هذه الموضوعات.. وما بي أن أثني على هذا الكتاب.. ومن أنا ومن هؤلاء البشر جميعاً ليضيفوا إلى كتاب الله شيئاً بما يملكون من هذا الثناء! لقد كان هذا الكتاب هو مصدر المعرفة والتربية والتوجيه والتكوين الوحيد لجيل من البشر فريد.. جيل لم يتكرر بعد في تاريخ البشرية- لا من قبل ولا من بعد- جيل الصحابة الكرام الذين أحدثوا في تاريخ البشرية ذلك الحدث الهائل العميق الممتد، الذي لم يدرس حق دراسته إلى الآن.. لقد كان هذا المصدر هو الذي أنشأ- بمشيئة الله وقدره- هذه المعجزة المجسمة في عالم البشر. وهي المعجزة التي لا تطاولها جميع المعجزات والخوارق التي صحبت الرسالات جميعاً.. وهي معجزة واقعة مشهودة.. أن كان ذلك الجيل الفريد ظاهرة تاريخية فريدة.. ولقد كان المجتمع الذي تألف من ذلك الجيل أول مرة، والذي ظل امتداده أكثر من ألف عام، تحكمه الشريعية التي جاء بها هذا الكتاب، ويقوم على قاعدة من قيمه وموازينه، وتوجيهاته وإيحاءاته.. كان هذا المجتمع معجزة أخرى في تاريخ البشرية. حين تقارن إليه صور المجتمعات البشرية الأخرى، التي تفوقه في الإمكانيات المادية- بحكم نمو التجربة البشرية في عالم المادة- ولكنها لا تطاوله في «الحضارة الإنسانية»! إن الناس اليوم- في الجاهلية الحديثة!- يطلبون حاجات نفوسهم ومجتمعاتهم وحياتهم خارج هذا القرآن! كما كان الناس في الجاهلية العربية يطلبون خوارق غير هذا القرآن!.. فأما هؤلاء فقد كانت تحول جاهليتهم الساذجة، وجهالتهم العميقة- كما تحول أهواؤهم ومصالحهم الذاتية كذلك- دون رؤية الخارقة الكونية الهائلة في هذا الكتاب العجيب!. . فأما أهل الجاهلية الحاضرة، فيحول بينهم وبين هذا القرآن غرور «العلم البشري» الذي فتحه الله عليهم في عالم المادة. وغرور التنظيمات والتشكيلات المعقدة بتعقيد الحياة البشرية اليوم؛ ونموها ونضجها من ناحية التنظيم والتشكيل. وهو أمر طبيعي مع امتداد الحياة وتراكم التجارب، وتجدد الحاجات، وتعقدها كذلك! كما يحول بينهم وبين هذا القرآن كيد أربعة عشر قرناً من الحقد اليهودي والصليبي؛ الذي لم يكف لحظة واحدة عن حرب هذا الدين وكتابه القويم؛ وعن محاولة إلهاء أهله عنه؛ وإبعادهم عن توجيهه المباشر. بعدما علم اليهود والصليبيون من تجاربهم الطويلة: أن لا طاقة لهم بأهل هذا الدين، ما ظلوا عاكفين على هذا الكتاب، عكوف الجيل الأول، لا عكوف التغني بآياته وحياتهم مكلها بعيدة عن توجيهاته!.. هو كيد مطرد مصرٌّ لئيم خبيث.. ثمرته النهائية هذه الأوضاع التي يعيش فيها الناس الذين يسمون اليوم بالمسلمين- وما هم بالمسلمين ما لم يحكموا في حياتهم شريعة هذا الدين!- وهذه المحاولات الأخرى في كل مكان للتعفية على آثار هذا الدين؛ ولتدارس قرآن غير قرآنه؛ يرجع إليه في تنظيم الحياة كلها، ويرد إليه كل اختلاف، وكل نزاع في التشريع والتقنين لهذه الحياة؛ كما كان المسلمون يرجعون إلى كتاب الله في هذه الشؤون!!! إنه هذا القرآن الذي يجهله أهله اليوم. لأنهم لا يعرفونه إلا تراتيل وترانيم وتعاويذ وتهاويم! بعدما صرفتهم عنه قرون من الكيد اللئيم، من الجهل المزري، ومن التعاليم المغرورة، ومن الفساد الشامل للفكر والقلب والواقع النكد الخبيث! إنه هذا القرآن الذي كان الجاهليون القدامى يصرفون عنه الجماهير بطلب الخوارق المادية. والذي يصرف عنه الجاهليون المحدثون الجماهير بالقرآن الجديد الذي يفترونه، وبشتى وسائل الإعلام والتوجيه! إنه هذا القرآن الذي يقول عنه العليم الخبير: {هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون}.. بصائر تكشف وتنير. وهدى يرشد ويهدي. ورحمة تغمر وتفيض.. {لقوم يؤمنون} فهم الذين يجدون هذا كله في هذا القرآن الكريم.. ولأن هذا هو القرآن يجيء مباشرة في السياق هذا التوجيه للمؤمنين: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون}.. فتختتم به السورة التي بدأت بالإشارة إلى هذا القرآن: {كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه، لتنذر به وذكرى للمؤمنين} وتختلف الروايات المأثورة في موضع هذا الأمر بالاستماع والإنصات إذا قرئ القرآن.. بعضهم يرى أن موضع هذا الأمر هو الصلاة المكتوبة. حين يجهر الإمام بالقرآن؛ فيجب أن يستمع المأموم وينصت، ولا يقرأ هو مع قراءة الإمام الجهرية. ولا ينازع الإمام القرآن! وذلك كالذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن، وقال الترمذي عنه: هذا حديث حسن، وصححه أبو حاتم الرازي، من حديث الزهري عن أبي أكثمة الليثي عن أبي هريرة «أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال:» هل قرأ أحد منكم معي آنفاً به «قال رجل: نعم يا رسول الله. قال: إني أقول: ما لي أنازع القرآن» فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيما جهر فيه بالقراءة من الصلاة حين سمعوا ذلك من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكالذي رواه ابن جرير في التفسير: حدثنا أبو كريب، حدثنا المحاربي، عن داود بن أبي هند، عن بشير بن جابر قال: صلى ابن مسعود، فسمع ناساً يقرأون مع الإمام. فلما انصرف قال: أما آن لكم أن تفهموا؛ أما آن لكم أن تعقلوا: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} كما أمركم الله! وبعضهم يرى أن هذا كان توجيهاً للمسلمين أن لا يكونوا كالمشركين الذين كانوا يأتون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا صلى، فيقول بعضهم لبعض بمكة: {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} فأنزل الله عز وجل جواباً لهم: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا}.. قال القرطبي هذا وقال نزل في الصلاة. روي عن ابن مسعود وأبي هريرة وجابر والزهري وعبيد الله بن عمير وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب.. وروى ابن جرير سبباً للنزول قال: حدثنا أبو كريب، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم عن المسيب ابن رافع. قال ابن مسعود: كان يسلم بعضنا على بعض في الصلاة، فجاء القرآن. {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون}.. وقال القرطبي في التفسير: قال محمد بن كعب القرظي: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا قرأ القرآن في الصلاة أجابه من وراءه. إذا قال: بسم الله الرحمن الرحيم. قالوا مثل قوله، حتى يقضي فاتحة الكتاب والسورة، فلبث بذلك ما شاء الله أن يلبث فنزل: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون}. وهذا يدل على أن المعنى بالإنصات ترك الجهر على ما كانوا يفعلون من مجاوبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال القرطبي كذلك: وقال قتادة في هذه الآية: كان الرجل يأتي وهم في الصلاة فيسألهم: كم صليتم؟ كم بقي؟ فأنزل الله: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا}.. وعن مجاهد أيضاً: كانوا يتكلمون في الصلاة بحاجتهم، فنزل قوله تعالى: {.. لعلكم ترحمون}. والذين يرون أنها خاصة بقراءة القرآن في الصلاة يستشهدون بما رواه ابن جرير: حدثنا حميد بن مسعدة، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا الجريري، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز قال: رأيت عبيد بن عمير وعطاء بن أبي رباح يتحدثان والقاص يقص (يعني والقارئ يقرأ) فقلت: ألا تستمعان إلى الذكر وتستوجبان الموعود، (يعني قوله تعالى: {لعلكم ترحمون}) قال: فنظرا إلي ثم أقبلا على حديثهما؛ قال فأعدت، فنظرا إلي وأقبلا على حديثهما! قال فأعدت الثالثة، قال: فنظرا إلي فقالا: إنما ذلك في الصلاة: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا}. قال ابن كثير وهو يروي هذا الخبر: وكذا قال سفيان الثوري عن أبي هاشم إسماعيل بن كثير عن مجاهد في قوله: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} قال: في الصلاة، وكذا رواه غير واحد عن مجاهد. وقال عبد الرازق، عن الثوري عن ليث عن مجاهد، قال: لا بأس إذا قرأ الرجل في غير الصلاة أن يتكلم.. وبعضهم يرى أنها في الصلاة وفي الخطبة كذلك في الجمع والعيدين، قاله سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وعمرو بن دينار، ويزيد بن أسلم، والقاسم بن مخيمرة، ومسلم بن يسار، وشهر بن حوشب وعبد الله ابن المبارك، ولكن القرطبي قال: «وهذا ضعيف، لأن القرآن فيها قليل، والإنصات يجب في جميعها. قاله ابن العربي والنقاش: والآية مكية ولم يكن بمكة خطبة ولا جمعة». وقال القرطبي في التفسير: قال النقاش: أجمع أهل التفسير أن هذا الاستماع في الصلاة المكتوبة وغير المكتوبة. النحاس: وفي اللغة يجب أَن يكون في كل شيء، إلا أن يدل دليل على اختصاص شيء. ونحن لا نرى في أسباب النزول التي وردت ما يخصص الآية بالصلاة المكتوبة وغير المكتوبة، ذلك أن العبرة بعموم النص لا بخصوص السبب. والأقرب أن يكون ذلك عاماً لا يخصصه شيء، فالاستماع إلى هذا القرآن والإنصات له- حيثما قرئ- هو الأليق بجلال هذا القول، وبجلال قائله سبحانه! وإذا قال الله أفلا يستمع الناس وينصتون؟! ثم رجاء الرحمة لهم: {لعلكم ترحمون}.. ما الذي يخصصه بالصلاة؟ وحيثما قرئ القرآن، واستمعت له النفس وأنصتت، كان ذلك أرجى لأن تعي وتتأثر وتستجيب؛ فكان ذلك أرجى أن ترحم في الدنيا والآخرة جميعاً.. إن الناس يخسرون الخسارة التي لا يعارضها شيء بالانصراف عن هذا القرآن.. وإن الآية الواحدة لتصنع أحياناً في النفس- حين تستمع لها وتنصت- أعاجيب من الانفعال والتأثر والاستجابة والتكيف والرؤية والإدراك، والطمأنينة والراحة، والنقلة البعيدة في المعرفة الواعية المستنيرة.. مما لا يدركه إلا من ذاقة وعرفه! وإن العكوف على هذا القرآن- في وعي وتدبر لا مجرد التلاوة والترنم!- لينشئ في القلب والعقل من الرؤية الواضحة البعيدة المدى؛ ومن المعرفة المطمئنة المستيقنة؛ ومن الحرارة والحيوية والانطلاق! ومن الإيجابية والعزم والتصميم؛ ما لا تدانيه رياضة أخرى أو معرفة أو تجريب! وإن رؤية حقائق الوجود- من خلال التصوير القرآني- وحقائق الحياة، ورؤية الحياة البشرية وطبيعتها وحاجاتها من خلال التقريرات القرآنية، لهي رؤية باهرة واضحة دقيقة عميقة. تهدي إلى معالجتها وإلى مزاولتها بروح أخرى، غير ما توجه إليه سائر التصويرات والتقريرات البشرية.. وهذا كله أرجى إلى الرحمة.. وهو يكون في الصلاة وفي غير الصلاة. وليس هناك ما يخصص هذا التوجيه القرآني العام بالصلاة كما روى القرطبي عن النحاس. ثم تنتهي السورة بالتوجيه إلى ذكر الله عامة.. في الصلاة وفي غير الصلاة. {واذكر ربك في نفسك تضرعاَ وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال، ولا تكن من الغافلين. إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون}.. قال ابن كثير في التفسير: «يأمر الله تعالى بذكره أول النهار وآخره كثيراً. كما أمر بعبادته في هذين الوقتين في قوله: {فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب} وقد كان هذا قبل أن تفرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء. وهذه الآية مكية- وقال ها هنا: بالغدو، وهو أول النهار، والآصال جمع أصيل- كما أن الأيمان جمع يمين- وأما قوله: {تضرعاً وخيفة} أي اذكر ربك في نفسك رغبة ورهبة وبالقول، لا جهراً، ولهذا قال: {ودون الجهر من القول}. وهكذا يستحب أن يكون الذكر، لا يكون نداء وجهراً بليغاً. ولهذا لما سألوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالوا: أقريب ربنا فنناجيه؛ أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله عز وجل: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه- قال:» رفع الناس أصواتهم بالدعاء في بعض الأسفار، فقال لهم النبي- صلى الله عليه وسلم-: يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إن الذي تدعونه سميع قريب، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته «. ولم يقبل قول ابن جرير وقبله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إن المراد بها أمر السامع للقرآن في حال استماعه بالذكر على هذه الصفة.. وقال:» فهذا الذي قالاه لم يتابعا عليه، بل المراد الحض على كثرة الذكر من العباد بالغدو والآصال لئلا يكونوا من الغافلين. ولهذا مدح الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فقال: {إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته}.. الآية. وإنما ذكرهم بهذا ليقتدى بهم في كثرة طاعتهم وعبادتهم «.. ونحن نرى فيما أورده ابن كثير من المناسبة والأحاديث النبوية مدى ما كان هذا القرآن وكانت التربية النبوية تنقل إليه نفوس العرب من المعرفة بحقيقة ربهم، وحقيقة الوجود من حولهم. وندرك من سؤالهم ومن الإجابة عليهم مدى النقلة التي نقلها لهم هذا الدين، بهذا الكتاب الكريم، بالتوجيه النبوي القويم.. إنها نقلة بعيدة، تتجلى فيها نعمة الله ورحمته لو كان الناس يعلمون. . ! وبعد، فإن ذكر الله- كما توجه إليه هذه النصوص- ليس مجرد الذكر بالشفة واللسان. ولكنه الذكر بالقلب والجنان. فذكر الله إن لم يرتعش له الوجدان، وإن لم يخفق له القلب، وإن لم تعش به النفس.. إن لم يكن مصحوباً بالتضرع والتذلل والخشية والخوف.. لن يكون ذكراً.. بل قد يكون سوء أدب في حق الله سبحانه. إنما هو التوجه إلى الله بالتذلل والضراعة، وبالخشية والتقوى.. إنما هو استحضار جلال الله وعظمته، واستحضار المخافة لغضبه وعقابه، واستحضار الرجاء فيه والالتجاء إليه.. حتى يصفو الجوهر الروحي في الإنسان، ويتصل بمصدره اللدني الشفيف المنير.. فإذا تحرك اللسان مع القلب؛ وإذا نبست الشفاه مع الروح؛ فليكن ذلك في صورة لا تخدش الخشوع ولا تناقض الضراعة. ليكن ذلك في صوت خفيض، لا مكاء وتصدية، ولا صراخاً وضجة، ولا غناء وتطرية! {واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول}.. {بالغدو والآصال}.. في مطالع النهار وفي أواخره. فيظل القلب موصولاً بالله طرفي النهار. وذكر الله لا يقتصر على هذه الآونة، فذكر الله ينبغي أن يكون في القلب في كل آن؛ ومراقبة الله يجب أن تكون في القلب في كل لحظة. ولكن هذين الآنين إنما تطالع فيهما النفس التغير الواضح في صفحة الكون.. من ليل إلى نهار.. ومن نهار إلى ليل. ويتصل فيهما القلب بالوجود من حوله؛ وهو يرى يد الله تقلب الليل والنهار؛ وتغير الظواهر والأحوال.. وإن الله- سبحانه- ليعلم أن القلب البشري يكون في هذين الآنين أقرب ما يكون إلى التأثر والاستجابة.. ولقد كثر في القرآن التوجيه إلى ذكر الله سبحانه وتسبيحه في الآونة التي كأنما يشارك الكون كله فيها في التأثير على القلب البشري وترقيقه وإرهافه وتشويقه للاتصال بالله.. {فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب. ومن الليل فسبحه وأدبار السجود} {ومن آثار الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى}.. {واذكر اسم ربك بكرة وأصيلاً. ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلاً طويلاً} ولا داعي للقول بأن هذا الأمر بالذكر في هذه الآونة قد كان قبل فرض الصلاة المكتوبة في أوقاتها المعلومة. مما يوحي بأن فرض الصلاة المكتوبة قد أغنى عن هذا الأمر في هذه الآونة. فهذا الذكر أشمل من الصلاة، وأوقاته ليست مقصورة على مواقيت الصلاة المكتوبة. كما أنه قد يكون في صور غير صورة الصلاة- المكتوبة وغير المكتوبة- في صورة الذكر بالقلب، أو بالقلب واللسان دون بقية حركات الصلاة.. بل إنه لأشمل من ذلك كذلك. إنه التذكر الدائم والاستحضار الدائم لجلال الله- سبحانه- ومراقبته في السر والعلن، وفي الصغيرة والكبيرة، وفي الحركة والسكنة، وفي العمل والنية.. وإنما ذكر البكرة والأصيل والليل. . لما في هذه الأونة من مؤثرات خاصة يعلم الله ما تصنع في القلب البشري، الذي يعلم خالقه فطرته وطبيعة تكوينة! {ولا تكن من الغافلين}.. الغافلين عن ذكر الله.. لا بالشفة واللسان، ولكن بالقلب والجنان.. الذكر الذي يخفق به القلب؛ فلا يسلك صاحبه طريقاً يخجل أن يطلع عليه الله فيه؛ ويتحرك حركة يخجل أن يراه الله عليها، ولا يأتي صغيرة أو كبيرة إلا وحساب الله فيها.. فذلك هو الذكر الذي يرد به الأمر هنا؛ وإلا فما هو ذكر لله، إذا كان لا يؤدي إلى الطاعة والعمل والسلوك والاتباع. اذكر ربك ولا تغفل عن ذكره؛ ولا يغفل قلبك عن مراقبته؛ فالإنسان أحوج أن يظل على اتصال بربه، ليتقوى على نزغات الشيطان: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله، إنه سميع عليم}. ولقد كانت السورة من قبل معرضاً للمعركة بين الإنسان والشيطان في أوائلها، وظل سياقها يعرض موكب الإيمان وشياطين الجن والإنس تعترض طريقه، كما ذكر الشيطان في نبأ الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين. وكما ذكر في أواخرها نزغ الشيطان والاستعاذة منه بالله السميع العليم.. وهو سياق متصل، ينتهي بالتوجيه إلى ذكر الله تضرعاً وخيفة، والنهي عن الغفلة.. ويأتي هذا الأمر وهذا النهي في صدد توجيه الله سبحانه لرسوله- صلى الله عليه وسلم- أن يأخذ العفو ويأمر بالعرف ويعرض عن الجاهلين.. فإذا هو تكملة لمعالم الطريق، وتزويد لصاحب الدعوة بالزاد الذي يقوى به على مشاق الطريق.. ثم يضرب الله مثلاً بالذين عنده من الملائكة المقربين: الذين لا ينزغ في أنفسهم شيطان، فليس له في تركيب طبيعتهم مكان! ولا تستبد بهم نزوة، ولا تغلبهم شهوة. ومع هذا فهم دائبون على تسبيح الله وذكره، لا يستكبرون عن عبادته ولا يقصرون. وللإنسان أحوج منهم إلى الذكر والعبادة والتسبيح. وطريقه شاق! وطبيعته قابلة لنزغ الشيطان! وقابلة للغفلة المردية! وجهده محدود. لولا هذا الزاد في الطريق الكؤود: {إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته، ويسبحونه. وله يسجدون}.. إن العبادة والذكر عنصر أساسي في منهج هذا الدين.. إنه ليس منهج معرفة نظرية. وجدل لاهوتي، إنه منهج حركة واقعية لتغيير الواقع البشري. وللواقع البشري جذوره وركائزه في نفوس الناس وفي أوضاعهم سواء. وتغيير هذا الواقع الجاهلي إلى الواقع الرباني الذي يريده الله للناس وفق منهجه مسألة شاقة عسيرة؛ تحتاج إلى جهد طويل، وإلى صبر عميق. وطاقة صاحب الدعوة محدودة. ولا قبل له بمواجهة هذه المشقة دون زاد يستمده من ربه. إنه ليس العلم وحده، وليست المعرفة وحدها. إنما هي العبادة لله والاستمداد منه.. هي الزاد، وهي السند، وهي العون؛ في الطريق الشاق الطويل! ومن ثم هذا التوجيه الأخير في السورة التي بدأت بقول الله سبحانه لرسول الكريم، {كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه، لتنذر به، وذكرى للمؤمنين} والتي تضمن سياقها عرض موكب الإيمان، بقيادة الرهط الكريم من رسل الله الكرام؛ وما يعترض طريقه من كيد الشيطان الرجيم؛ ومن مكر شياطين الجن والإنس؛ ومن معارضة المتجبرين في الأرض، وحرب الطواغيت المتسلطين على رقاب العباد. إنه زاد الطريق. وعدة الموكب الكريم في هذا الطريق..
|